استكبار ابليس    4
 

   تقدم الحديث عن الآيات التي ذكرها الله سبحانه في سورة الحجر والتي امر الله فيها الملائكة بالسجود لادم فسجدوا الا ابليس حيث استولى عليه الغرور والكبر والعنصرية في تمييز نفسه عن الانسان لأنه خلق من نار بينما كان خلق الانسان من طين، وقد تم تبيان بعض الحقائق المتعلقة بهذه الآيات، الا انه اهل الايمان يحتاجون الى التبصر بخفايا هذه الآيات من عدة وجوه ومقارنتها بالآيات الاخرى التي وردت في كتاب الله والتي تحدث بها الله سبحانه عن هذا الامر كما في الآيات التالية:

- (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ).

- (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا، قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا، وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا).

- (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا).

- (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ، فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ،فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ، فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى).

   وعلى العموم فانه يستفاد من الآيات السابقة في سورة الحجر ان خلق الانسان تمّ بشيئين متغايرين، أحدهما في أعلى درجات الشرف، والآخر في أدنى الدرجات بالمقياس النوعي للأشياء.

   فالطين المتعفن او التراب اليابس الذي اصبح كالفخار خلق منه الجانب المادي للإنسان، في حين كانت الروح هي الجانب المشرق فيه والتي اودع الله فيها الحياة كما عبر عنه في الآية الكريمة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، (وهو الطين المتعفن) ،فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)،

    وبديهي أنّ اللّه سبحانه منزّه عن الجسمية وليس له روح، وإِنّما أضيف الروح إِلى لفظ الجلالة لإِضفاء التشريف عليها، وللدلالة على أنّها روح ذات شأن جليل قد أودعها الله في بدن الانسان، كما يعبر عن الكعبة بانها بيت الله لجلالة قدرها، وعن شهر رمضان المبارك بانه شهر الله لعظيم بركته واثاره في اصلاح الانسان، ولهذا السبب نرى أن الخط التصاعدي للإنسان يتسامى في العلو في المنزلة حتى يصل الى اعلى درجات السمو فلا يرى غير الله في الوجود كله كما تجلى في دعاء الامام الحسين في يوم عرفة بقوله: " {الهي} كَيفَ يُستَدَلُّ عَلَيكَ بِمَن هُوَ في وُجُودِهِ مُفتَقِرٌ إِلَيكَ، أَيَكُونُ لِغَيرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ المُظهِرَ لَكَ؟، مَتى غِبتَ حَتّى تَحتَاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُ عَلَيكَ، وَمَتى بَعُدتَ حَتّى تَكُونَ الآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيكَ، عَمِيَتْ عَينٌ لَا تَرَاكَ عَلَيها رَقِيباً، وَخَسِـرَتْ صَفقَةُ عَبدٍ لَمْ تَجعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً"

   كما ينحدر الخط التسافلي للإنسان الى ادنى درجات الانحطاط حتى يركد في أدنى مرتبة من الحيوانات او اسوء من ذلك ما في قوله تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)

    وهذا البون الشاسع بين الخطين التصاعدي والتنازلي بحد ذاته دليلٌ على الأهمية الاستثنائية لهذا المخلوق.
إِنّ شرف مقام الانسان وتكريمه انما يأتي من خلال هذا التركيب الخاص الذي جعله الله فيه، ولكن ليس بفضل جنبته المادية لأنّه ليس سوى (حمأ مسنون او طين متعفن) وإِنّما بفضل الروح الإِلهية المودعة فيه، بما تحمل من استعدادات ولياقة لأن تكون انعكاسا للأنوار الإِلهية التي ترفع منزلة الانسان وتعرفه حقيقة الحياة الدنيا وقصرها، فلا سبيل لتكامل الانسان إِلاّ ببنائه الروحي ووضع البعد المادي لخلقه في خدمة طريق التكامل الروحي والوصول لساحة رضوانه جل شأنه.

وللحديث تتمة

 

 

محرم الحرام 1432 هجرية - 2010 
huda-n.com