إستكبار إبليس    3
 

   تقدم الحديث عن غرور الشيطان وعدم سجوده لادم وعن تصميمه بالانتقام منه ومن ذريته لاعتقاده بانه كان سبب طرده من رحمة الله، وما كان ذلك ليخفى على الله قبل خلق الشيطان فالله سبحانه لا يخفى عليه شيء، وهو العليم بكل شيء ، وما كان ابقائه للشيطان وعدم اهلاكه مباشرة بعد عصيانه الا لإتمام الابتلاء او الاختبار للإنسان ليتحدد مكانه ودرجته في الاخرة (مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، اذ ان خلق الانسان لم يكن عبثا او بدون غاية فحاشا لله الخالق العظيم ان يفعل ذلك (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).

   وفي هذه الآيات المباركات التي قصها الله في كتابه عن تمرد ابليس درس للبشر في ذم التكبر والغرور وحب الذات والذي يقود الانسان الى السقوط فيما وقع فيه ابليس من سوء العاقبة في جهنم، فكما هو معلوم أنّ إِبليس لم يكن من الملائكة (كما تشير إِلى ذلك الآية الخمسون من سورة الكهف بقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، كَانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا)، إِلاّ أنّ ابليس ارتقى من خلال عبادته الكثيرة الى المنزلة الرفيعة التي اهلته بالعيش بين صفوف الملائكة، ويستفاد من الخطبة المعروفة باسم القاصعة لأمير المؤمنين في (نهج البلاغة): أنّ ابليس عبد اللّه عزَّ وجلّ آلاف السنين، ولكن التعصب الأعمى للذات وعبادة هوى النفس قد أدّيا الى خسرانه كل ثوابه في لحظة واحدة عندما اصرّ على المعصية، بل إِنّ التكبر والتعصب جعله يستمر في موقفه الخاطئ ويصر على الإِثمّ والسير في طريق المعصية فنسي أو تناسى ما للتوبة والاستغفار من أثر عند الله ومضى متعمدا في مشاركة كل الظلمة والمذنبين من بني آدم في جرائمهم وذنوبهم بوسوسته لهم ليبوء بالذنب العظيم في القيامة ويتحمل نصيبه من عذاب الجميع يوم الفزع الأكبر.

   والحق ان هذا المسار هو ليس منهج ابليس فحسب، بل هو نتيجة كل من يسير مساره من الغرور والكبر فيصبحوا اداة له ليعيثوا في الأرض فساداً، فعندما تملأ نار العصبية قلوب الظلمة، ويحجب الجهل بصيرتهم، فانهم يسلكوا طريق الهوى والظلم والاستبداد والتسلط على الرقاب ليهبطوا إِلى أدنى درجات الرذيلة والانحراف عن الطريق القويم، وليبوءوا بغضب الله وسخطه وعذابه الدائم في الاخرة،

    وهوما يجعل المؤمن الواعي حذرا من ان تغرّه نفسه وذاته وما ناله من فضل في طاعة الله وعبادته فيسلك مسلك الشيطان ليضيع بذلك جهده وعمره الذي قضاه في عبادة الله كما اضاع الشيطان عبادته السابقة، فيكون كمن حاله كمن صَرف جهدا كبيرا ووقتا طويلا في بناء بيته وتأثيثه ولكنه احترق بسبب شرارة صغيرة، فضاع كل سعيه وجهده وعمره، فالتكبر والغرور يفعل فعل النّار في الحطب ولا تنفع معه تلك السنين التي قضيت بالطاعة والعبادة.

   كما يستفاد من الآيات السابقة ان من يجعل مفاهيمه بحسب هواه وفكره القاصر يؤدي به الحال الى السقوط فيما سقط به إِبليس الذي اختلطت عليه معاني الأشياء فراح يضع المعاني لها بحسب تصوراته، فتصور أن النّار أفضل وأشرف من التراب، ولم يدرك اصل القضية وهي المعصية لله سبحانه، فذهب الى القياس الباطل لظاهر الاشياء، ولم يدرك انه حتى هذا القياس الظاهري للأشياء هو قياس خاطئ، فالتراب مصدرا لخروج البركات من النباتات وبعض الحيوانات والمعادن وهو محل حفظ المياه، وما فيه من فوائد اخرى وهو افضل من النار التي وضيفتها الإِحراق فقط، مع ان القضية هي ليست المفاضلة بين التراب والنار، وانما هي في معصية رب العالمين والذي اشتغل بعبادته الاف السنين، ولكن الغرور اعمى بصره وبصيرته، ولذا وصف أمير المؤمنين (ع) إِبليسَ في خطبه المذكورة في نهج البلاغة بقوله عنه: (عدو لله، إِمام المتعصبين وسلف المستكبرين، ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبره ووضعه بترفعه؟، فجعله في الدنيا مدحوراً وأعد له في الآخرة سعيراً).

   كما يستفاد من قصة ابليس بإلقائه الاغواء على الله في قوله : (ربّ بما أغويتني لأُزينّن لهم في الأرض ولأُغوينهم أجمعين)، مع ان لله سبحانه لا دخل له بالمعصية والتي كانت من ابليس وحده، ان ابليس يعتبر أوّل مؤسس لمذهب الجبرية الذين يقولون ان الانسان مجبور على فعل المعاصي وذلك لتبرئة المذنبين من أعمالهم المخالفة لشرع اللّه، فجميع اتباع الشيطان يتميزون بإلقاء الذنب على الاخر عند فعل المعاصي وهو ما يجعل المؤمن حذرا من القاء اللوم على الاخر خشية الوقوع في هذا المسلك الخاطئ بل يبادر للتوبة والاعتراف بالخطأ عسى ان ينعم بعفو الله ومغفرته.

وللحديث تتمة

 

محرم الحرام 1432 هجرية - 2010 
huda-n.com