إستكبار إبليس   2
 

   تقدم الحديث عن طرد الشيطان لمواجهة الله برفضه الانصياع لأمره وصدور اللعن الالهي الابدي عليه بقوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ).

   وهنا حينما وجد إِبليس نفسه مطروداً من الساحة الإِلهية، فقد شعر بأنّ خلق الإِنسان هو سبب شقائه الابدي فاشتعلت نار الحقد والضغينة في قلبه فقرر الانتقام من ادم وولده جميعا، رغم من أنّ السبب الواقعي لهذا العصيان يرجع إِلى إِبليس نفسه وليس لآدم دخل في ذلك، إِلاّ أن غروره وحبّه لنفسه وعناده المستحكم لم يعطياه الفرصة لتغير فعله، ولهذا (قال ربّ فانظرني إِلى يوم يبعثون)، وقد اخفى في نفسه روح الانتقام من الانسان، فقبل الله تعالى طلبه لمعرفته بنتائج الامور، (قال فإِنّك من المنظرين)، ولكن ليس إِلى يوم يبعثون كما أراد الشيطان، بل (إِلى يوم الوقت المعلوم).

فما هو يوم الوقت المعلوم؟

  قال بعض المفسّرين: هو نهاية هذا العالم وانتهاء التكليف، لأنّ بعد ذلك تحلّ نهاية الحياة لجميع الكائنات، ولا يبقى حي إِلاّ الذات الإِلهية المقدسة،
وقال بعض آخر: هو زمان معين لا يعلمه إِلاّ الله، لآنه لو أظهره عزَّ وجلّ لكان لإِبليس ذريعة في المزيد من التمرد والمعاصي.
وهناك مَنْ قال: إنّه يوم القيامة، لأن إِبليس أراد أن يكون حياً إِلى ذلك اليوم ليكون بذلك من الخالدين في الحياة، الا ان هذا الاحتمال بعيد جداً لأنه يتضمن الموافقة الإِلهية على كل ما طلبه إِبليس، والحال أن ظاهر الآيات المذكورة لا تعطي هذا المعنى، فلم تبيّن الآيات أن اللّه استجاب لطلبه بالكامل، بل قال يوم الوقت المعلوم،

  ومن هنا يكون التّفسير الأوّل الذي يعني نهاية الانسان في الارض هو أكثر توافقاً مع روح وظاهر الآية، وكذلك ينسجم مع بعض الرّوايات التي وردت عن اهل البيت ع، وهنا أظهر إِبليس نيته الباطنية فقال: (قال ربّ بما أغويتني {وكأن سبب الاغواء له هو الإِنسان} لأُزينن لهم في الأرض، ولأُغوينهم أجمعين)، فاعلن عن عداوته للبشر وان سلاحه سيكون في تزيين الشهوات في الارض حتى يوقع بني ادم بالمعاصي فيتعرضون لعذاب الله، الا أنّه علم بأن وساوسه سوف لن تؤثر في قلوب عباد اللّه المخلصين، الذين يتحصنون بالله من الوقوع في شباكه، فقال: (إِلاّ عبادك منهم المخلٓصين)، والمخلَصين جمع للمخلٓص (بفتح اللام) وهو المؤمن الذي وصل إِلى مرحلة عالية من الإِيمان والعمل الصالح، فأولئك لن يكونوا خاضعين له بل هم بما اتاهم الله من العلم والارادة ممتنعين عن الانصياع للوسوسة الشيطانية.

   ورغم ان القاء التهمة على الله بقول الشيطان : (ربي بما اغويتني) فيه افتراء على الله لأنه سبحانه منزّه عن اضلال خلقه، إِلاّ أنّها تكشف عن تبرير ابليس لضلاله وعصيانه، وهذا الموقف هو ديدن جميع الأبالسة والشياطين، فهم يلقون تبعة ذنوبهم على الآخرين أوّلاً ومن ثمّ يسعون لتبرير أعمالهم القبيحة بمنطق مغلوط ثانياً، ولذا كان جواب الله تعالى تحقيراً للشيطان وتقوية لقلوب عباده المؤمنين السالكين سبل رضاه ان قال: (قال هذا صراط عَلَيَّ مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ مَنْ اتبعك من الغاوين)، حيث بين سبحانه ان قدرة ابليس على إِضلال الناس انما هي منحصرة في المنحرفين عن صراط الله والمستجيبين لدواعي رغباتهم وميولهم، بخلاف المؤمنين المخلَصين لله.

   وهو ما يعني ان الإِنسان حرّ الإِرادة في اختيار طريق الطاعة او طريق المعصية، وإِنّ إِبليس وجنوده لا يقوون على أن يجبروا الانسان على السير في طريق الفساد والضلال، لكنّه الإِنسان هو الذي يلبي دعوتهم ويفتح قلبه أمامهم ويأذن لهم في الدخول فيه!

    وخلاصة القول: إنّ الوساوس الشيطانية وإن كانت لا تخلو من أثر في تضليل وانحراف الإِنسان، إِلاّ أنّ القرار الفعلي للانصياع للوساوس أو رفضها يرجع إِلى الإِنسان اساسا، ولا يستطيع الشيطان وجنوده مهما بلغوا من مكر وقوة أن يجبروا الانسان قهرا على فعل المعصية او ان يدخلوا قلب الانسان المؤمن ويتحكموا فيه الا ان يسمح لهم بإرادته الضعيفة وطاعته لهم، (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا)، اما المؤمن القوي صاحب الارادة الموجهة لطاعة الله والامتثال لأمره فهم اعجز عن التأثير عليه او حرفه عن صراط الله المستقيم (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)

وللحديث تتمة

 

 

محرم الحرام 1432 هجرية - 2010 
huda-n.com